لا يمكن لوم خطة «بريكست» على الأزمة السياسية والاقتصادية الاستثنائية التي تواجهها بريطانيا اليوم، لكن لا يمكن اعتبار «بريكست» بريئة بالكامل أيضاً، إنها الحقيقة الصعبة التي يُفترض أن يتقبلها مؤيدو «بريكست» ومعارضوها في بريطانيا لمنح البلد فرصة الخروج من المأزق الذي صنعه بنفسه. لكن يصعب أن يتحقق هذا الهدف عند مراجعة تاريخ بريطانيا بعد الحرب.
كانت الأوضاع سيئة في بريطانيا قبل أن تدمّر رئيسة الوزراء ليز تراس الاقتصاد، وكانت سيئة قبل أن يصل بوريس جونسون إلى السلطة، وقبل أن تتسلم تيريزا ماي منصبها، وقبل أن يصوّت البلد على قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في يونيو 2016، حتى أن جزءاً من الأسباب التي دفعت الناس إلى التصويت على هذا القرار يتعلق بسوء الأوضاع القائمة، فعملياً، وجد الاقتصاد البريطاني صعوبة في التعافي من الأزمة المالية العالمية التي بدأت عام 2008، وترافقت هذه الحقبة مع إبرام تسوية سياسية مهّدت لعصرٍ ذهبي ظاهرياً خلال عهد توني بلير، وبعد تلك المرحلة، لم تعد الأجور تتحسّن، وتدهورت الخدمات العامة، وزاد استياء الناخبين طبعاً.
عند مواجهة هذا النوع من التحديات، من المبرر أن يسارع البعض إلى طرح تفسيرات بسيطة وشعبوية، فيلوم خطة «بريكست» على كل ما يحصل، إذ من الأسهل على هذا المعسكر أن يقنع نفسه بأن أزمة البلد تنجم عن خطوة غبية واحدة بدل نَسبها إلى مشاكل بنيوية يصعب معالجتها.
عند إلقاء نظرة سريعة على النمو الاقتصادي في بريطانيا منذ عام 1945، يتبيّن أن المزاعم المرتبطة بالتراجع والتعافي، قبل أوروبا وبعدها، وقبل عهد مارغريت ثاتشر وبعده، تختلف عما توحي به، فوفق أرقام «مركز الإصلاح الأوروبي» في لندن، كان متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي في بريطانيا، بين العامين 1945 و1973 (خارج «السوق الأوروبية المشتركة»)، يبلغ 2.8%، وبين العامين 1974 و2008، حين أصبحت بريطانيا منتسبة بالكامل إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، تراجع ذلك المعدل إلى 2.3%، وبين 2009 و2019، وهي الفترة التي تتراوح بين الأزمة المالية و«بريكست»، انخفضت هذه النسبة إلى 1.3%.
توضح الأبحاث التي أقوم بها لإصدار كتاب عن علاقة بريطانيا المضطربة مع أوروبا أن الوهم هو العامل المشترك الدائم بين معظم الحكومات البريطانية منذ عام 1945، سواء كانت تؤيد أوروبا أو تشكك فيها، على مر هذه الفترة، كانت أوروبا تُعتبر المنقذة الكبرى أو الشيطان الأكبر، لكن لطالما كان التفسير الذي يتبناه الرأي العام شاملاً وأحادي الوجهة، فقد ظن البعض مثلاً أن جميع المشاكل ستتلاشى حين تنضم بريطانيا إلى أوروبا، ثم ظن آخرون أن المشاكل ستنتهي حين تنسحب بريطانيا من أوروبا، واليوم، يدعو البعض بريطانيا إلى الانضمام إلى أوروبا مجدداً.
يبدو كل تفسير أسهل من إطلاق عقود من الحُكم الرشيد والممل بدعمٍ من مؤسسات فاعلة، ووضع مالي مستقر، واستثمارات حكيمة، ومع ذلك، قد تبقى أوروبا جزءاً من الحل أو لا تعود كذلك، لكن لن تكون أوروبا المنقذة الوحيدة لأن الحل الحقيقي يكمن داخل بريطانيا، فإذا أراد البلد أن ينجح، يجب أن يوقف هوسه بسمعته أمام العالم وبقوة أوروبا السحرية، وينشغل بمعالجة إخفاقات النظام البريطاني أولاً، لكن لا تدعونا التجارب التاريخية إلى التفاؤل في هذا المجال.
* «توم ماكتاغ»
» الخبر من المصدر
جريدة الجريدة الكويتية