خلال الشهر الماضي احتجزت إسرائيل 800 فلسطيني بموجب أوامر اعتقال إدارية، وطردت كثيرين من القدس الشرقية، واستولت على المزيد من الأراضي المملوكة للعرب في مناطق حول الخليل وفي غور الأردن، وفرضت إغلاقاً على مناطق فلسطينية كثيرة خلال أيام الأعياد الدينية اليهودية. ومر كل هذا دون أن تلتفت له الصحافة الأميركية، لأن مثل هذه السياسات الإسرائيلية مستمرة منذ 55 عاماً، وهي انتهاك للقانون الدولي.
وكثير من هذه الممارسات أرساها البريطانيون في البداية للمساعدة في سحق الثورة الفلسطينية الكبرى بين عامي 1936و1939، وحينذاك، سيطر المتمردون الفلسطينيون في ذروة انتفاضتهم على مناطق مهمة من البلاد، فأنشأ البريطانيون «إدارة الطوارئ العسكرية في فلسطين». وبموجب أحكام النظام الجديد، تم اعتقال واحتجاز الآلاف من المتمردين الفلسطينيين دون توجيه اتهامات إليهم، وطُرد المئات، وتعرضت القرى للعقاب الجماعي، وصودرت أو دمرت الممتلكات الفلسطينية، أو الأمرين معاً، في محاولة لإنهاء الثورة، وبينما أدت هذه الإجراءات القمعية دوراً، فإن ما أخمد جذوة الثورة في نهاية المطاف كان وعوداً كاذبة من البريطانيين للنظر في مطالب الاستقلال الفلسطينية وقبول الزعماء العرب لهذه الوعود وحثهم المقاتلين الفلسطينيين على إلقاء سلاحهم.
وبعد الحرب العالمية الثانية، وفي مواجهة التهديد الجديد المتمثل بالتمرد الصهيوني المسلَّح، أعادت بريطانيا إدارة الطوارئ، هذه المرة ضد المليشيات اليهودية، ورداً على ذلك، غضب الزعماء اليهود، وانتقد أحد المحامين المعروفين، وهو يعقوب شمشون شابيرو الذي أصبح فيما بعد وزير العدل والمدعي العام الإسرائيلي هذه القوانين البريطانية باعتبارها «لا مثيل لها في أي بلد متحضر»، ومضى واصفاً إياها بالقول: «لم يكن هناك مثيل لهذه القوانين حتى في ألمانيا النازية.. لا يوجد سوى شكل واحد من أشكال الحكم يشبه النظام المعمول به هنا الآن هو حالة دولة محتلة.. من واجبنا أن نقول للعالم كله إن قوانين الدفاع التي أصدرتها حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين تدمر أساس العدل ذاته في هذه الأرض». وختم شابيرو بالإشارة إلى أنه «لا يحق لأي حكومة إصدار مثل هذه القوانين».
ورغم ذلك فقد تبنّت دولة إسرائيل، فور قيامها عام 1948، تلك القوانين ذاتها، وطبّقتها على ما تبقى من السكان الفلسطينيين بعد النكبة، دون أي احتجاج من قبل فقهاء القانون فيها، وبدءاً من عام 1948 حتى عام 1965 سنَّت إسرائيلُ «قوانين الدفاع في حالات الطوارئ» للسيطرة على المجتمع الفلسطيني المحاصر، وهذه القوانين تعمل إجمالا على ترسيخ إدارة عسكرية في القطاع العربي، وفرض عقوبات جماعية، واعتقال المواطنين الفلسطينيين دون إجراءات قضائية، أو طردهم دون سبيل إلى العودة، ومصادرة الأراضي المملوكة لهم، وفرض حظر تجول وإغلاق على مناطق بأكملها.
وأُلغيَّ العملُ رسمياً بـ«قوانين الدفاع في حالات الطوارئ» عام 1965، لكن أُعيد إحياؤها وتعديلها في عام 1967 وطُبقت بشدة أكبر على مناطق فلسطين المحتلة عام 1967، وانتشر العقاب الجماعي لقرى بأكملها، وكذلك تم استخدام الاعتقال الإداري، ولم يُسمح بأية أحزاب سياسية أو تعبيرات عن الهوية الوطنية الفلسطينية، وتم طرد أكثر من 1200 من الزعماء الفلسطينيين، من رؤساء البلديات ورؤساء الجامعات وقادة العمال ورجال الدين، وتمت مصادرة مساحات كبيرة من الأراضي المملوكة للعرب، واستخدمت هذه المساحات فيما بعد لبناء المستوطنات الإسرائيلية، ولأن عمليات البناء الفلسطينية تتطلب تصريحاً إسرائيلياً عزيز المنال، فقد تعرّضت المنازلُ والمباني السكنية الفلسطينية غالباً للهدم.
وحتى بعد اتفاقيات أوسلو التي كان الفلسطينيون يأملون أن تؤدي إلى قيام دولة مستقلة، ظلت أحكام «قوانين الدفاع في حالات الطوارئ» ساريةً كممارسة قانونية مقبولة من سلطات إسرائيل، ونظراً لأن هذه «القوانين» الإسرائيلية سارية منذ أكثر من سبعة عقود، فلا عجب في أن الإعلام الغربي والزعماء السياسيين الغربيين اعتادوا على هذه الإجراءات الإسرائيلية ولم تعد تحرك فيهم شيئاً.
الفلسطينيون بشر يستحقون الحقوقَ التي كفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف، و«المخاوف الأمنية» لإسرائيل (مثل المخاوف البريطانية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي) لا تسوِّغ الهدمَ الكامل للقانون والاتفاقيات الدولية، ولا تسوِّغ أيضاً صمتَ الغرب عن هذا التجاهل التام لحقوق الفلسطينيين، وفي تكرار لكلمات أول مدعٍ عام إسرائيلي، هذه القوانين «تدمر أساس العدل ذاته في هذه الأرض.. لا يحق لأي حكومة إصدار مثل هذه القوانين».
*رئيس المعهد العربي الأميركي في واشنطن.
» الخبر من المصدر
جريدة الجريدة الكويتية